ليس موضوع هذا المقال إثبات حرمة الربا فالنصوص الشرعية في ذلك واضحة من القرآن والسنة والإجماع وكذلك ليس الهدف إثبات أن الفائدة (interest) هي الربا بعينه فقد حسم الفقهاء المعاصرون والمجامع الفقهية هذه المسألة وإنما سيكون التركيز على الآثار السلبية للربا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وخاصة الآثار المدمرة للديون الخارجية على دول العالم الثالث.
ليس موضوع هذا المقال إثبات حرمة الربا فالنصوص الشرعية في ذلك واضحة من القرآن والسنة والإجماع وكذلك ليس الهدف إثبات أن الفائدة (interest) هي الربا بعينه فقد حسم الفقهاء المعاصرون والمجامع الفقهية هذه المسألة وإنما سيكون التركيز على الآثار السلبية للربا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وخاصة الآثار المدمرة للديون الخارجية على دول العالم الثالث وسيعزز المقال بإذن الله بالأرقام وأقوال العلماء والباحثين المسلمين والاقتصاديين الغربيين الذين أدانوا الربا واعتبروه المسؤول عن ما تعانيه البشرية في العصر الحاضر من مشاكل اقتصادية واختلال في النظام المالي العالمي وآخر مظاهر ذلك الأزمة المالية العالمية التي هزت النظام الرأسمالي وأصابته في بعض مقاتله باعتراف كبار الساسة والاقتصاديين في الغرب.
إن الآثار السلبية للربا متعددة ومتنوعة فمنها الاثار الاجتماعية ومنها آثار اقتصادية ومنها آثار أخلاقية .
وقد عدد الشيخ فيصل مولوي عددا من أضرار الربا :
- أخلاقيا: يبدأ بالرغبة بجمع المال لتتحول إلى أثرة وبخل وتكالب على المادة وتحجر القلب
- اجتماعيا: المجتمع الذي لا تعاون ولا مساعدة فيه إلا من أجل المصلحة ويغتنم فيه الغني حاجة الفرد للتمول مآله إلى التمزق إلى طبقات متناقضة ومتحاربة.
- الربا هو أهم وسيلة لتضخم الأموال تضخما شديدا وكأن المال الذي يصل إلى أيدي بعض الناس يكون سببا للقعود والترهل ونصب الفخاخ للمحتاجين
- ازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء
- إذا أتيح الربح المضمون فإن راس المال لا يخوض غمار العمل والانتاج
- وسيلة للسيطرة السياسية على الدول الفقيرة (1)
فالربا وسيلة لإفساد العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع وهو مرتع خصب للجشع وحب تحصيل الثروة بأي ثمن ودون رحمة من قبل الأغنياء الذين هم أقلية في كل المجتمعات فليس في قاموس المرابين عادة تكافل ولا تراحم ولا حرص على المصلحة العامة ولا رحمة بالضعفاء.. والنتيجة الحتمية لهذا الوضع هي زيادة التنافر واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وتراجع المشروعات الإنتاجية بسبب خشية أصحاب المبادرات من فشل مشروعاتهم ليواجهوا مصيرهم مع مرابين يريدون أن يسترجعوا أموالهم بأي ثمن .. حتى لو اضطر المقترض لبيع كل ما يملك والاستدانة من غيره لأجل تسديد دين المرابين أفراد كانوا أو مؤسسات...
وهكذا تزداد طبقة قليلة غنى وتزداد طبقة أخرى تمثل الأغلبية الساحقة للسكان فقرا وحرمانا ويكون الحقد والغل هو المسيطر بدل التعاون والتراحم والسعي المشترك للبناء..
يقول سيد قطب :
" التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه وشعوره تجاه أخيه في الجماعة وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة"(2)
هذا بين الأفراد في المجتمع الواحد لكن الأمر ينطبق تماما على العلاقات بين الدول بل إن الوضع ربما يكون اسوأ فمعظم بلدان العالم الثالث اليوم يمكن وصفها بأنها مسترقة لأنها تعاني من ديون ضخمة يمكن التعبير عنها بأرقام فلكية فهي تعيش في بؤس وشقاء على المستويين الاجتماعي والاقتصادي وهي كذلك منزوعة الإرادة السياسية بسبب سيطرة الدول الكبرى والصناديق والمؤسسات الدولية الغربية التي ترسم لها سياساتها التي لا يجوز لها أن تحيد عنها وإذا حاولت الخروج عليها فإنها تخنق خنقا إلى أن تعود مستسلمة طائعة..
والنتيجة الحتمية للنظام القائم على الربا هي أن تتكدس الأموال في أيدي أفراد قلائل أو مجموعة من الدول وهذا ما أكده بعض الخبراء الغربيين:
قال الدكتور شاخت الألماني مدير بنك الريخ الألماني سابقا خلال محاضرة له في دمشق 1953م :
" إنه بعملية رياضية (غير متناهية) يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين ، وذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية بينما المدين معرض للربح والخسارة ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد – بالحساب الرياضي – أن يصير إلى الذي يربح دائما وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل فإن معظم مال الأرض الآن يملكه – ملكا حقيقيا – بضعة ألوف".
فدول العالم الثالث التي تؤلف اكثر من 135 دوله وتشغل حوالي 70% من سكان الكون فيها اكثر من 65% ممن يعانون من الأميه وأكثر من 500 مليون انسان يعيشون في أكواخ في الوقت الذي لا يتجاوز سكان البلدان المتقدمه 18% من نفوس العالم. وهي مع ذلك تحتكر80% من الثروات الطبيعيه وتتحكم في 90% من إجمالي المنتوج الصناعي العالمي وتحتكر أكثر من 80% من إجمالي الأرصده والأوراق النقديه في العالم. أما حصة البلدان الناميه فلا تتجاوز 20% من هذه الأرصده .(3)
لكن غير العقلاء من المتمسكين بالنظام الربوي والمدافعين عنه لا يتعظون ولا يقرأون التاريخ فكوارث الربا على مر التاريخ لا تعد ولا تحصى، فالربا هو سبب عدم الاستقرار في النظام المالي وهذا ما أكده ملتون فريدمان في عام 1982م في إجابته على سؤال عن أسباب السلوك الطائش الذي لم يسبق له مثيل في الاقتصاد الأمريكي بأن (الإجابة البديهية هي السلوك الطائش في معدلات الفائدة) .
وهذا المرض بالنسبة للاقتصاد العالمي مظهره، كما يؤكد الشيخ صالح عبد الرحمن الحصين أن هذا الاقتصاد يقوم على أهرامات من الديون يرتكز بعضها على بعض ولكن على غير أساس ثابت وقد تسبب هذا عن حمى المضاربة على العملات والمضاربة على الأسهم حتى أصبح العالم أشبه بكازينو كبير للقمار هذه المضاربة إنما يدعمها الائتمان الربوي حيث أصبح كل واحد يمكنه أن يشتري بدون أن يدفع ويبيع بدون أن يحوز، وفي تدفق النقود بين دول العالم تحظى المضاربة بالنسبة العظمى ولا تحظى التجارة الحقيقية إلا بنسبة ضئيلة.(4)
ولتتضح المسالة اكثر نفترض أن شخصا اقترض دولارا واحدا بفائدة 5% في السنة الأولى ميلادية فإن النتيجة في سنة 1000 (ميلادي) حسب معدلات الفائدة ستكون على النحو التالي :
1,546,318,920,731,950,000,000 دولار
وإذا قسمت هذا المبلغ على 1000 فستجد حصة كل سنة من الدين وهو مبلغ ضخم جدا.
إن القارئ سيقف حائرا امام هذه الأرقام التي قد لا يتمكن من قرآتها بسبب نموها غير الطبيعي الذي شبهه بعض الاقتصاديين المعاصرين بنمو الخلايا السرطانية لأنه ينمو بشكل أسي ((exponent فخلايا السرطان تنمو بشكل سريع وبأضعاف مضاعفة بطريقة تنهك الجسم وتقضي عليه في نهاية المطاف وكذلك الحال بالنسبة للفائدة فنموها المضاعف يتسبب في عدم استقرار الاقتصاد وينتهي بها الحال إلى تدميره ونشر الكوارث في البلدان والمجتمعات.
فكيف يستقر اقتصاد يقوم على نظام تتكاثر فيه النقود هذا التكاثر الفلكي الوهمي الذي لا يستند إلى أساس من العمليات المنتجة الحقيقية؟ إنه الهرم المقلوب كما يعبر عنه بعض الاقتصاديين..
ونظام الفائدة يقود إلى ما هو أشد من عدم الاستقرار الاقتصادي فقد يؤدي إلى إفلاس الدول والشعوب بل وسقوط الحضارات وهذا ما أكده قبل عقود عديدة مستر آرثر كينستون أمام لجنة ماكميلان للمال والصناعة سنة 1930م :
"إنني ضد الربا في جميع أشكاله ، فالربا لعنة على الدنيا منذ بدأت ولقد حطم امبراطوريات أخرى غير هذه الامبراطورية ولسوف يحطم هذه الامبراطورية وما من قيمة أخلاقية عظيمة واحدة أو معلم دين لم يذم الربا"(5)
ومن الأدلة الواضحة اليوم على خطورة الربا وكونه مكمنا لمعظم الكوارث التي عرفها العالم في عصرنا الحالي الأزمة المالية الحالية التي لم يعرف لها العالم مثيلا.
يقول الاقتصادي الأمريكي سيمونز عن اسباب الكساد العالمي :
" إن السبب الرئيسي في الكساد يرجع إلى التمويل عن طريق الاقتراض قصير الأجل بفائدة"
وهذا ما أكده أيضا الاقتصادي الأمريكي فينيسكي "(6).
الربا لا يرحم محتاجا ولا يواسي صديقا
لا عجب في أن يستغل المرابون من الدول والأفراد ظروف المحتاجين بتحميلهم فوائد مضاعفة لكن الغريب أن يتم ذلك بين دول بينها تاريخ طويل من الصداقة والتعاون والتحالف وجمعتها ظروف المآسي والمشاكل العويصة ومن اوضح الأمثلة هنا ما حصل بين بريطانيا وامريكا، فبعد الحرب العالمية الثانية طلبت بريطانيا من الولايات المتحدة قرضا حسنا - من غير فوائد- لمواجهة ما تعانيه من آثار الحرب ،لكن الولايات المتحدة – وهي صديقة وحليفة لبريطانيا! - رفضت واشترطت ان يكون القرض بفائدة .
وعبر اللورد كينز عن ألمه لهذه المعاملة بقوله: " لا أستطيع أن أنسى أبد الدهر ذلك الحزن الشديد والألم المرير الذي لحق بي من معاملة أمريكا إيانا في هذه الاتفاقية ، فإنها أبت أن تقرضنا شيئاً إلا بالربا " وكان مما قاله المستر تشرشل وهو ممن لا يخفون حبهم لأمريكا وميلهم إليها " إني لأتوجس خلال هذا السلوك العجيب المبني على الأثرة وحب المال الذي عاملتنا به أمريكا ضروباً من الأخطار ، والحق أن هذه الاتفاقية تركت أثراً سيئاً جداً فيما بيننا وبين أمريكا من العلاقة ".
وقال الدكتور ( دالتن ) وزير المالية آنذاك، وهو يعرض هذه الاتفاقية على البرلمان لنيل مصادقته عليها ( إن هذا العبء الثقيل الذي نخرج من الحرب وهو على ظهورنا جائزة عجيبة نلناها على ما عانينا في الحرب من الشدائد والمشاق والتضحيات لأجل الغاية المشتركة ، وندع للمؤرخين في المستقبل أن يرَوْا رأيهم في هذه الجائزة الفذة من نوعها، التمسنا من أمريكا أن تقرضنا قرضاً حسناً. ولكنها قالت لنا جوابا على هذا ما هذه بسياسة عملية)(7)
وأكملوا بالميسر والقمار
لم يكتف المرابون باستغلال الناس بنظام الفائدة التي أدت إلى عدم الاستقرار في النظام المالي وأفقرت الأفراد والمجتمعات وأنهكت اقتصاديات الدول بل ابتكروا المشتقات Derivatives باعتبارها وسائل جديدة لإدارة المخاطر وما هي إلا لعبة قمار وكازينوهات عصفت بما تبقي من أسس النظام المالي الاقتصادي وعجلت بظهور الأزمة المالية الاقتصادية وهذا ما تنبأ به وارن بافيت، أحد أغنى أغنياء العالم في فبراير 2003م، حيث وصف بافيت المشتقات المالية بأنها "قنابل موقوتة للمتعاملين بها وللنظام الاقتصادي". وأضاف: "إنها مثل جهنم: يسهل الدخول إليها ويكاد يستحيل الخروج منها". ثم ختم تعليقه بقوله: "إننا نعتقد أن المشتقات أسلحة مالية للدمار الشامل".
أي أن الأزمة ابتدأت بالربا، وتطورت إلى الميسر، وأصبح يغذي أحدهما الآخر، لتنتهي بالكارثة. فلو لم تكن الأديان السماوية حرمت الربا والميسر لكان في الأزمات المتلاحقة التي تنشأ عنهما ما يكفي العقلاء لمنعهما كما يقول الخبير الدكتور سامي السويلم.
ويضيف الدكتور سامي: فالنتيجة من الميسر والربا واحدة وهي تضاعف الالتزامات والمديونيات بعيداً عن الثروة الحقيقية، لينشأ عن ذلك ما يسمى الهرم المقلوب، حيث ترتكز جبال شاهقة من الديون على قاعدة ضئيلة من الثروة. ومع تزايد عبء هذه الديون ستعجز قاعدة الثروة عن احتمالها، لتكون الخسارة حين وقوع الخطر أضعافاً مضاعفة.(
أين تكمن المشكلة؟
تكمن المشكلة أساسا في أن الذين يتعاملون بالربا يجهلون أو يتجاهلون أن النقود ليست سوى وسيلة للتبادل وحفظ القيم لكنها ليست سلعة في حد ذاتها فالنقود لا تلد النقود فلا بد من استثمارها في أصول حقيقية والاستعداد لتحمل التبعات والمخاطر وهذا ما لا يقبله المرابون .
إن النظام المالي الراسمالي يقوم على أسس ظالمة فيتجر بالنقود ويعدها سلعة في حد ذاتها وهي أصلا ليست سوى وسيلة فاتجارهم بها أغضب كثيرا من المفكرين الغربيين الذين عدوها من الاتجار المحرم.
يقول جفري مارك :
" إن الممارسة العالمية للربا والتصديق القانوني على مبدأ الربا المعاديين لنفوذ هذه السوابق السامية قد تسببا في أن ينظر إلى المال والائتمان وكذلك الذهب الذي يقومان به على أنهما سلعتان غاليتان ذاتا فوائد وأنه يمكن شراؤهما وبيعهما في اسواق المال المحلية والعالمية وهذا الاتجار المحرم في سلعة المال هو الوظيفة الحقيقية التي يقوم بها الممولون الدوليون ورؤساء المصارف العالمية سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا . إن هذا الاتجار المحرم وتأكد الربا فيه هو الذي مهد السبيل لزيادة تدهور المال كوسيط تبادل وهي وظيفته الحقيقية أو الوظيفة التي ينبغي أن تكون له.."(9)
والعقلاء والحكماء على مر التاريخ اكدوا هذه الحقيقة ، فأرسطو وهو من فلاسفة اليونان فيما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد يستنكر إقراض النقود بالربا قائلاً : " إن النقود نافعة للتبادل ، ولكنها حين تغري الناس بتكديس أرباح لا يستخدمونها ، أو تجميع ثروة عن طريق الإقراض فإن النقود تصبح قيمة غير منتجة وتساعد على إيجاد التفاوت في الثراء وغير ذلك من مظاهر الشذوذ المالي"،ويقارن أرسطو في كتابه (السياسة ) النقود بالدجاجة العقيم التي لا تضع بيضاً ومن ثم فإن قطعة النقود لا يمكن أن تخلق قطعة أخرى .
ويؤكد أن التعامل بالنقود بهذه الطريقة معاملة مصطنعة ملفقة وهي اتخاذ النقد سلعة تباع ، فإنما حق النقد أن يكون وسيلة للمبايعة ، ومعياراً تعرف به أسعار السلع المختلفة ، أما اتخاذه سلعة تباع وتشترى فهو خروج به عن غرضه .
ويقدم علي الطنطاوي الصورة بطريقة لا تخلو من الطرافة :
" إن من الأموال ما ينمو بطبيعته ، فالحمل الصغير يصير كبشا والغراس الصغيرة تصير بعد حين أشجارا ومن الأموال ما يتوالد كالحيوانات إذا جمعت ذكورها وإناثها أما النقد فهو لا ينمو ولا يتوالد، فلو تركت الريال سنوات في الصندوق لا يكبر ولا يصير اثنين ولو تركت الريالين لا يلدان قرشا وإنما يزيد النقد بالعمل والجهد".(10)
فالمرابون صعبوا على أنفسهم من حيث لا يدرون ومهدوا بأسلوبهم لظهور الأزمات وذلك من جشعهم وحبهم الأعمى لتحصيل وتكديس المال ولو اتبعوا الطريق الصحيح العادل لوجدوا بغيتهم من غير ضرر ولنفعوا العباد والبلاد وساهموا بطريقة عادلة في تسهيل البناء وتوزيع الثروة وإيجاد بيئة صالحة للتعاون والانتاج بعيدا عن الظلم والاحتكار ، يقول الدكتور سامي السويلم :
"إن مشكلة الربا هي فصل التمويل عن النشاط الإنتاجي الذي يولد القيمة المضافة. فهو يفصل نمو المديونية عن نمو الثروة. ولكن نمو المديونية أسهل بكثير من نمو الثروة، إذ لا يتطلب الأمر سوى موافقة الطرفين، الدائن والمدين. لكن نمو الثروة يتطلب، بالإضافة إلى تراضي الطرفين، المهارة والمعرفة والإبداع والإنتاجية. وإذا كان نمو المديونية أسرع من نمو الثروة، فإن خدمة الديون ستنمو بما يجعلها تتجاوز الدخل، لتصبح الديون نزيفاً في النشاط الاقتصادي وعبئاً عليه، بدلاً من أن تكون عاملاً مساعداً في نموه وازدهاره. ونتيجة لانفراط عقد المديونية، يصبح الوضع الاقتصادي هشاً وحساساً لتقلبات الأسواق والأسعار بدرجة كبيرة. فأدنى هزة يمكن أن تؤدي إلى إخفاق الكثير من المؤسسات والشركات والأفراد الغارقين في المديونية."(11)
فالعملية ببساطة ان يتم التعامل بوسائل تنمي الثروة وتزيد الانتاج لا بوسائل يبدو من ظاهرها أنها تحقق أرباحا كبيرة، والحقيقة أنها إنما تدمر الاقتصاد وتأكل رؤوس الأموال مع أرباحها ولو بعد حين.
وهذا المعنى أكده أمير المؤمنين الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه في وصيته لعامله على مصر مالك الأشتر ، التي يؤكد فيها على استصلاح الأراضي والتنمية، حيث يقول : ( وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنَّ ذلك لايدرك إلا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً).
كارثة ديون الدول "النامية".. ديون مجحفة وظالمة
كانت ديون العالم الثالث عام 1991م تبلغ 1362 بليون دولار أي ما يمثل 126% من مجموع صادراتها من المواد والخدمات في نفس السنة في حين كانت خدمة الدين تمثل 32% من من الناتج الاجمالي الداخلي لدول العالم الثالث.
وتشير الإحصاءات إلى أن إجمالي ديون العالم الثالث عام1997م (بدون بلدان شرق أوربا) بلغ حوالي 1950 مليار دولار،وهذا المبلغ يمثل ما يقارب ضعفي ما أنفقه العالم على التسلح في نفس السنة (12)وكانت هذه البلدان تدفع أقساط لديونها وخدمات لهذا الدَّين بقيمة 200 مليار دولار، في حين أن المساعدات الحكومية لمشروعات التنمية في هذه البلدان كانت لا تزيد عن 45 مليار دولار سنويًّا، بل إنَّ الدول الأفريقية جنوب الصحراء كانت تنفق على خدمة ديونها أربعة أضعاف ما تنفقه على التعليم والصحة.
وفي سنة 2005م كان إجمالي ديون الدول النامية في حدود 2600 مليار دولار بعد أن كان 560 مليار سنة 1980م. وبين هاتين الفترتين سددت الدول النامية 5300 مليار دولار أي أنها عوضت 10 دولارات عن كل دولار اقترضته مستحق سنة 1980م وبقيت عليها 5 دولارات عن كل دولار. .
فالبلدان الناميه وفقاً لإحصائيات البنك الدولي تدفع في اليوم الواحد للجهات الدوليه الدائنه حوالي700 مليون دولار وهو ما يعادل 500 ألف دولار في الدقيقه الواحده,
وإذا كان معدل ما تسدده الدول النامية من الدين الخارجي 200مليار سنويا فإن 40 مليار دولار سنويا ولمدة عشر سنوات تكفي لتأمين الخدمات والحاجيات الأساسية لكل سكان الكرة الأرضية حسب تقارير برنامج الأمم المتحدة اللإنماء.
وقبل سنوات قليلة كان ما ينفق على خدمة الدين الخارجي في الدول النامية يمثل حوالي 45% من قيمة الصادرات وبالنسبة لنيكاراغوا فقد كانت النسبة 323% (13)
أما الديون فقد كانت في بعض الدول العالية الدين نسبة خيالية من قيمة الصادرات فقد كانت 227% بالنسبة لكينيا و 1000% بالنسبة لغينيا بيساو والموزمبيق ونيكاراغوا والسودان والصومال.
وهناك بعض الدول يمثل دينها الخارجي ما يقارب 100% من ناتجها الإجمالي المحلي أو يزيد عليه مثل بوليفيا (92%) الكونجو (98%) ونيكاراغوا (112%).
(تقرير البنك الدولي 1992 (14)
وبعبارة أخرى فكأن هذه الدول لا تصدر شيئا على اللاطلاق.
هذه الأرقام تشير إلى استغلال من الدائنين الأغنياء للدول الفقيرة، وإصرار الأغنياء على زيادة الإقراض لهذه الدول، فقد زاد عبء الدين على الدول النامية بثبات منذ أوائل الثمانينيات بالرغم مما يسمَّى مشاريع إعادة الجدولة والهيكلة وتحويل الديون التي يطلقها الدائنون؛ فقد كان إجمالي الدين القائم طويل الأجل للبلدان النامية نحو 62 مليار دولار عام1970م، زاد إلى 32 ضعفًا عام 1996م، وأدى انخفاض السلع وقيمة صادرات الدول النامية إلى تخصيص حصَّة متزايدة على الدوام من عائدات التصدير لخدمة الدَّين، فالجزائر مثلا كانت ديونها حوالي 25 مليار دولار في فترة من الفترات، وبلغت خدمة هذا الدين حوالي 7,5 مليار دولار سنويًّا، في حين بلغت عوائدها النفطية في ذلك العام4.5 مليار دولار، وهو ما يعني أن الدول النامية أصبحت مصدرةً لرأس المال لصالح الدول الغنية.
ولعل من أبلغ ما توصف به هذه الحالات الدولية من الاستغلال البشع للدول النامية واستنزافها بالقروض الربوية ما عبر عنه المستشار الألماني الأسبق "برانت" بقوله: "إن ما يجري هو عملية نقل دم عكسية من المريض إلى الطبيب".
فالدول النامية تعطي للدول الغنية أكثر بكثير مما تأخذ منها بل إنها تضطر أحيانا تحت ضغط الهيئات الدولية للاستدانة لتسديد الأقساط المستحقة.
بعبارة أخرى فإن هذه الدول لا تملك أي شيء من مواردها فهي ومواردها مرهونة للدول الكبرى ومؤسسات التمويل الدولية.
وكان من نتائج الدين الخارجي على الدول النامية تراجع دخل الفرد بنسبة 14% خلال الفترة 1980-1990م أما الدول عالية المديونية فقد تراجع دخل الفرد فيها بنسبة 25%(15)
وهذا ينسجم مع السياسة العامة للهيئات الدولية الغربية : الصناديق الدولية الغربية والبنك الدولي ونادي باريس (الدول المانحة) ونادي لندن (البنوك الكبيرة) التي تمنح القروض عادة بشرط تطبيق شروطها مثل ما يعرف ببرامج الاصلاح البنيوي التي يكون من نتائجها عادة :زيادة البطالة وتخفيض مخصصات الخدمات الاجتماعية وتسريع في عمليات خصخصة المؤسسات العامة واضطراب العلاقات على مستوى العمل وازدياد عدد الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر.
ان المديونيه الخارجيه بمثابة كمين محكم نصبته البلدان الأستعماريه الدائنه لأيقاع البلدان الناميه في شباكها في إطار استيراتيجيه بعيدة المدى تستخدم المديونيه كذريعه للضغط على البلدان المدينه والتوغل في شؤنها الداخليه في سبيل توثيق تبعيتها للدول الدائنه وإجبارها على تنفيذ ما يعرف بسياسة الاصلاح الهيكلى. (16)
الديون تقتل الأطفال
لا يقتصر الأثر السلبي للديون الربوية على إنهاك الدول الفقيرة وزيادة عدد الفقراء فيها بل تطور الأمر إلى أن اصبحت الديون مصدر خراب وقتل وإبادة فقد نص تقرير اليونسيف للعام 1999م على أن الديون تقتل الأطفال لأن الدول المستدينة تحول جزءا من مواردها المخصصة للخدمات الاجتماعية لسداد الديون الخارجية ويكون الضحايا من الفقراء خاصة الأطفال والنساء وقد أكد تقرير اليونسيف للعام 2000م أن 30 ألف طفل يموتون يوميا أي 11 مليون طفل سنويا بسبب الفقر. (17)
ولا غرابة في هذ إذا عرفنا أن إفريقيا تنفق في سداد الدين الخارجي ما يمثل أربعة اضعاف ما تنفقه على الصحة والتعليم.
هذه الصورة وهذه الأرقام تفسر لماذا لم تنجح البرامج التنموية في البلدان النامية. فلماذا تراجعت المسيرة التنموية في هذه البلدان وانتشرت البطالة وازداد الفقر وأظلم المستقبل في وجه الناس وأصابهم اليأس وعدم الثقة بالخطط والمشاريع التي يسمعون عنها ؟ إن الأمر يرجع إلى حد كبير إلى هذه الديون التي رهنت موارد هذه البلدان للجهات التمويلية الخارجية ..
لا ننكر ان هناك إخفاقات بسبب أخطاء سياسية واستشراء الفساد في بعض النخب الحاكمة لكن كل ذلك لا ينفي أن هذه القروض الربوية أتت على الأخضر واليابس وأفقرت هذه الدول وأخضعتها لرق اقتصادي شديد الوطأة ..
ولكن قد يجادل مجادل بأن المال سيستخدم سواء بفائدة أو غيرها فمن اقترض المال سيستخدمه وبالتالي فإن رب المال مستحق للفائدة المحتسبة كما قد تثار نقطة أخرى يقول أصحابها: أنتم تتهجمون على النظام الرأسمالي بسبب اعتماد نظام الفائدة ولكن المسلمين الذين يؤمنون بحرمة الربا ويعتبرون ذلك عقيدة ليسوا أحسن حالا من الغرب بل هم أسوأ منه حالا.
بالنسبة للنقطة الأولى نقول إن المال فعلا قد يستخدم لكن المقرض لا تهمه نتائج استخدام المال بقدر ما يهمه ضمان ماله مع الفوائد بغض النظر عن ربح المقترض أو خسارته وهذا مناف لقاعدة ذهبية مبناها العدالة والانصاف هي : "الغنم بالغرم " او "الخراج بالضمان"..
أما النقطة الثانية فصحيحة ، فالمسلمون أسوأ حالا على الأقل من النواحي المادية لكن ذلك ليس بسبب خلل ولا نقص في هذا الدين العظيم وشرائعه وإنما بسبب سلوك المسلمين أنفسهم وتخليهم وابتعادهم عن هذا المنهج العادل، فضلا عن وقوعهم تحت سيطرة نظام دولي يتحكم الربا في جميع مفاصله، وعدم نجاحهم لحد الآن في بناء نظامهم الاقتصادي وفقا لأحكام دينهم. وهنا نتذكر الكلمة الجميلة للمغني البريطاني السابق ستيفن كانت (أصبح اسمه يوسف إسلام، بعد إسلامه ) الذي قال إنه يحمد الله أن هداه للإسلام قبل أن يتعرف على المسلمين...
ولعلنا نرجع لهذه النقطة بشيئ من التفصيل بإذن الله في مقال آخر بإذن الله..
أ . الهادي بن محمد المختار النحوي
باحث في التمويل الإسلامي .